لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ، بَلْ أَوْجَسَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَلَعَلَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى خَوْفِهِ بِأَمَارَاتٍ كَظُهُورِ أَثَرِهِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ قالوه له بعد ما قَالَ- عَقِبَ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخِيفَةِ-: قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ «١» ، ولم يذكر ذلك هاهنا اكتفاء بما هناك، ثُمَّ عَلَّلُوا نَهْيَهُ عَنِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ أَيْ: أُرْسِلْنَا إِلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ قَوْلًا يَكُونُ هَذَا جَوَابًا عَنْهُ، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ- قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، وَجُمْلَةُ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَ تَحَاوُرِهِمْ وَرَاءَ السِّتْرِ، وَقِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً تَخْدِمُ الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَالضَّحِكُ هُنَا: هُوَ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلسُّرُورِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّهُ الْحَيْضُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَآتِي الْعِرْسَ عِنْدَ طَهُورِهَا ... وَأَهْجُرُهَا يَوْمًا إِذَا تَكُ ضَاحِكَا
وَقَالَ الْآخَرُ:
وضحك الأرانب فوق الصّفا ... كمثل دم الجوف يوم اللقا
والعرب تقول ضحكت الأرانب: إِذَا حَاضَتْ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ضَحِكَتْ بِمَعْنَى حَاضَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ظَاهِرُهُ أَنَّ التَّبْشِيرَ كَانَ بَعْدَ الضَّحِكِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَالْمَعْنَى: فَبَشَّرْنَاهَا فَضَحِكَتْ سُرُورًا بِالْوَلَدِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ: فَضَحَكَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الَمَهَدَوِيُّ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: بِنَصْبِ يَعْقُوبَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَبَشَّرْنَاهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَوَهَبْنَا لَهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ أَنْ يَكُونَ يَعْقُوبُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجُوزُ الْجَرُّ إِلَّا بِإِعَادَةِ حَرْفِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَوْ قُلْتَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ، وَأَمْسِ عُمَرُ، كَانَ قَبِيحًا خَبِيثًا، لِأَنَّكَ فَرَّقْتَ بَيْنَ الْمَجْرُورِ وَمَا يَشْرَكُهُ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِ يَعْقُوبَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِيلَ:
الرَّفْعُ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَيَحْدُثُ لَهَا، أَوْ وَثَبَتَ لَهَا. وَقَدْ وَقَعَ التَّبْشِيرُ هُنَا لَهَا، وَوَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ «٢» - وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ «٣» ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْبِشَارَةِ بِهِ لكونه منهما، وجملة قالَتْ يا وَيْلَتى مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَتْ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَصْلُهَا يَا وَيْلَتِي، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ أَلِفٌ لِأَنَّهَا أَخَفُّ مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ، وَهِيَ لَمْ تُرِدِ الدُّعَاءَ عَلَى نَفْسِهَا بِالْوَيْلِ، وَلَكِنَّهَا كَلِمَةٌ تَقَعُ كَثِيرًا عَلَى أَفْوَاهِ النِّسَاءِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِنَّ مَا يَعْجَبْنَ مِنْهُ، وَأَصْلُ الْوَيْلِ: الْخِزْيُ، ثُمَّ شَاعَ فِي كُلِّ أَمْرٍ فَظِيعٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهَا: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ لِلتَّعَجُّبِ، أَيْ: كَيْفَ أَلِدُ وَأَنَا شَيْخَةٌ قَدْ طَعَنْتُ فِي السِّنِّ، يُقَالُ: عَجَزَتْ تَعْجَزُ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا عَجْزًا وَتَعْجِيزًا، أَيْ: طَعَنَتْ فِي السِّنِّ، وَيُقَالُ عَجُوزٌ وَعَجُوزَةٌ، وَأَمَّا عَجِزَتْ بِكَسْرِ الْجِيمِ: فَمَعْنَاهُ عَظُمَتْ عَجِيزَتُهَا، قِيلَ: كَانَتْ بِنْتَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ:
بِنْتَ تِسْعِينَ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً أَيْ: وَهَذَا زَوْجِي إِبْرَاهِيمُ شَيْخًا لَا تحبل من مثله النساء، وشيخا: منتصب
(١) . الحجر: ٥٢.(٢) . الصافات: ١٠١.(٣) . الذاريات: ٢٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute