قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا؟ قُلْتُ: عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى اصَّدَّقُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ اصَّدَّقُوا وَأَقْرَضُوا. انْتَهَى. وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِمَعْطُوفٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْمُصَّدِّقاتِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ أَلْ فِي الْمُصَّدِّقَاتِ لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ، إِذْ ضَمِيرُ الْمُتَصَدِّقَاتِ مُؤَنَّثٌ، وَضَمِيرُ وَأَقْرَضُوا مُذَكَّرٌ، فَيَتَخَرَّجُ هُنَا عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قِيلَ:
وَالَّذِينَ أَقْرَضُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ:
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ منكم ... ويمدحه وينصره سواه
يُرِيدُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وَصِدِّيقٌ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَكُونُ فِيمَا أَحْفَظُ إِلَّا مِنْ ثُلَاثِيٍّ. وَقِيلَ: يَجِيءُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ كَمِسِّيكٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَسَّكَ وَأَمْسَكَ، فَمِسِّيكٌ مِنْ مَسَّكَ. وَالشُّهَداءُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، فَيَقِفُ عَلَى الصِّدِّيقُونَ، وَإِنْ شِئْتَ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ.
إِنَّ الْكَلَامَ تَامٌّ فِي قَوْلِهِ: الصِّدِّيقُونَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَبَعْضٌ قَالَ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، يَشْهَدُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدِّيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «١» الْآيَةَ وَبَعْضٌ قَالَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، اسْتَأْنَفَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ صِنْفًا مَذْكُورًا وَحْدَهُ لِعِظَمِ أَجْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: وَالشُّهَدَاءُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّدِّيقُونَ، وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ، يَعْنُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَبَعْضٌ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ، مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ» ،
وَإِنَّمَا ذُكِرَ الشُّهَدَاءُ السَّبْعَةُ تَشْرِيفًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي أَعْلَى رُتَبِ الشَّهَادَةِ، كَمَا خُصَّ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ السَّبْعَةِ بِتَشْرِيفٍ تَفَرَّدَ بِهِ، وَبَعْضٌ قَالَ: وَصَفَهُمْ بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «٢» . لَهُمْ أَجْرُهُمْ: خَبَرٌ عَنِ الشُّهَدَاءِ فَقَطْ، أَوْ عَنْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ. وَالظَّاهِرُ فِي نُورِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عِبَارَةٌ عَنْ الْهُدَى وَالْكَرَامَةِ وَالْبُشْرَى.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ: أَخْبَرَ تَعَالَى بِغَالِبِ أَمْرِهَا مِنِ اشْتِمَالِهَا عَلَى أَشْيَاءَ لَا تَدُومُ وَلَا تُجْدِي، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَضَرُورِيِّ مَا يَقُومُ بِهِ الْأَوْدُ، فَلَيْسَ مُنْدَرِجًا في
(١) سورة النساء: ٤/ ٤١. [.....](٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute