لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
وَاذْكُرْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ وَذَاكِرُهُ وَمُورِدُهُ فِي التَّنْزِيلِ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى وَاخْتِلَافَ الْأَحْزَابِ فِيهِمَا وَعِبَادَتَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ قَامَتْ بِهِمَا الْحَيَاةُ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الضَّالَّ الَّذِي عَبَدَ جَمَادًا وَالْفَرِيقَانِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّلَالِ، وَالْفَرِيقُ الْعَابِدُ الْجَمَادَ أَضَلُّ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَذْكِيرًا لِلْعَرَبِ بِمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَبْيِينَ أَنَّهُمْ سَالِكُو غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَفِيهِ صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَلَقًّى بِالْوَحْيِ وَالصِّدِّيقُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ مِنَ الثُّلَاثِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرُ الصِّدْقِ، وَالصِّدْقُ عُرْفُهُ فِي اللِّسَانِ وَيُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْخُلُقِ وَفِيمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ: صَدَقَنِي الطَّعَامَ كَذَا وَكَذَا قَفِيزًا، وُعُودٌ صِدْقٌ لِلصُّلْبِ الْجَيِّدِ فَوُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالصِّدْقِ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالصِّدِّيقِيَّةُ مَرَاتِبُ أَلَا تَرَى إِلَى وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي قَوْلِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «١» وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَنَّ فِعِّيلًا إِذَا كَانَ مِنْ مُتَعَدٍّ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فَتَقُولُ هَذَا شِرِّيبٌ مُسْكِرٌ كَمَا أَعْمَلُوا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَعُولًا وَفَعَّالًا وَمِفْعَالًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ فَرْطُ صِدْقِهِ وَكَثْرَةُ مَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ غُيُوبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَكُتُبِهِ ورسوله، وَكَانَ الرُّجْحَانُ وَالْغَلَبَةُ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ لِلْكُتُبِ وَالرُّسُلِ أَيْ كَانَ مُصَدِّقًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَكُتُبِهِمْ وَكَانَ نَبِيًّا فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ «٢» وَكَانَ بَلِيغًا فِي الصِّدْقِ لِأَنَّ مِلَاكَ أَمْرِ النُّبُوَّةِ الصِّدْقُ وَمُصَدِّقَ اللَّهِ بِآيَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ حَرِيٌّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَبَدَلِهِ أَعْنِي إِبْراهِيمَ.
(١) سورة النساء: ٤/ ٦٩.(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ٣٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute