رَجَاؤُهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: إِخْرَاجُ الظَّنِّ عَنْ مَعْنَى التَّرْجِيحِ، وَعَنْ مَعْنَى الْيَقِينِ إِلَى معنى التوهم، حتى تجري الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ على سنن واحد. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَظَنُّوا، وَفِي قَدْ كُذِبُوا، عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ وَالْمَعْنَى:
كَذَّبَهُمْ من تباعدهم عَنِ اللَّهِ وَالظَّنُّ عَلَى بَابِهِ قَالُوا: وَالرُّسُلُ بَشَرٌ، فَضَعُفُوا وَسَاءَ ظَنُّهُمْ.
وَرَدَّتْ عَائِشَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُوصَفَ الرُّسُلُ بِهَذَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ أَرَادَ بِالظَّنِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، وَيَهْجِسُ فِي الْقَلْبِ مِنْ شُبَهِ الْوَسْوَسَةِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ. وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا بَالُ رُسُلِ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَعْرَفُ بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ خَلْفِ الْمِيعَادِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ انْتَهَى. وَآخِرُهُ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ. فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى ظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ أُمَمَهُمْ عَلَى لِسَانِهِمْ قَدْ كُذِبُوا فِيهِ، فَقَدْ أَتَى عَظِيمًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ مِثْلُهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا إِلَى صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ ضَعُفُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أُخْلِفُوا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: قَدْ كَذَبُوا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: وَظَنَّ المرسل إليهم أن الرسل قَدْ كَذَبُوهُمْ فِيمَا قَالُوا عَنِ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالظَّنِّ عَلَى بَابِهِ. وَجَوَابُ إذ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي جَاءَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَنُجِّيَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَشَدِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ هُرْمُزَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاءَ، وَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ أُدْغِمَتْ فِيهِ النُّونُ فِي الْجِيمِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا تُدْغَمُ النُّونُ فِي الْجِيمِ. وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ كَالْقِرَاءَةِ الَّتِي قَبْلَهَا سُكِّنَتِ الْيَاءُ فِيهِ لُغَةَ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الْحَرَكَةَ صِلَةً عَلَى الْيَاءِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ «١» بِسُكُونِ الْيَاءِ.
وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، وَقَرَأَهُمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ فَنُنْجِي بِنُونَيْنِ مُضَارِعُ أَنْجَى. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْيَاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَاهَا هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ هُبَيْرَةَ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ غَلَطًا، وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُمَا الْمُضَارِعُ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «٢»
(١) سورة المائدة: ٥/ ٨٩.(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute