إِعَادَةُ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ. وَعَدَ اللَّهُ عَلَى لَفْظِ الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِمَا نَصَبَ حَقًّا أَيْ: حَقَّ حَقًّا بَدْءُ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ:
أَحَقًّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ جَائِيًا ... وَلَا ذَاهِبًا إِلَّا عَلَيَّ رَقِيبُ
انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَوْضِعُهَا النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أَحَقٌّ أَنَّهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوْضِعُهَا رَفْعٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَحَقٌّ أَنَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: إِنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ، فَمَنْ فِي قُدْرَتِهِ هَذَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ إِخْلَافِ الْوَعْدِ، وَإِنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ وعد الله حقا إنه يَبْدَأُ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ وَعْدَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ ذَلِكَ بِتَمَامِهِ وَقَطَعَ عَمَلَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: حَقٌّ بِالرَّفْعِ، فَهَذَا ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ أَنَّهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ حق خبر مبتدأ، وأنه هُوَ الْمُبْتَدَأُ هُوَ الْوَجْهُ فِي الْإِعْرَابِ كَمَا تَقُولُ: صَحِيحٌ أَنَّكَ تَخْرُجُ، لِأَنَّ اسْمَ أَنَّ مَعْرِفَةٌ، وَالَّذِي تَقَدَّمَهَا فِي نَحْوِ هَذَا الْمِثَالِ نَكِرَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَدْءَ الْخَلْقِ هُوَ النَّشْأَةُ الْأُولَى، وَإِعَادَتُهُ هُوَ الْبَعْثُ من القبور، وليجزي متعلق بيعيده أَيْ: لِيَقَعَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: الْبَدْءُ مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى التُّرَابِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى الْبَعْثِ. وَقِيلَ: الْبَدْءُ نَشْأَتُهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقِيلَ: يَبْدَؤُهُ مِنَ الْعَدَمِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُوجِدُهُ. وَقِيلَ: يَبْدَؤُهُ فِي زُمْرَةِ الْأَشْقِيَاءِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَى زُمْرَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ طلحة: يبدىء مِنْ أَبْدَأَ رُبَاعِيًّا، وَبَدَأَ وَأَبْدَأَ بِمَعْنًى، وَبِالْقِسْطِ مَعْنَاهُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ أَيْ: لِيُثِيبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي جَزَائِهِمْ، فَيُوصِّلُ كُلًّا إِلَى جَزَائِهِ وَثَوَابِهِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ، فَيُنْصِفُ بَيْنَهُمْ وَيَعْدِلُ، إِذْ لَيْسُوا كُلُّهُمْ متساوين فِي مَقَادِيرِ الثَّوَابِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْقِسْطِ مِنْهُ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا وَلَمْ يَظْلِمُوا حِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١» وَالْعُصَاةُ ظُلَّامٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا أَوْجَهُ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْقِسْطَ مِنْ فِعْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مُبْتَدَأً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ:
الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَكُونُ الْجَزَاءُ بِالْعَدْلِ قَدْ شَمِلَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ مَعَ الكفار مُفْتَتَحَ السُّورَةِ مَعَهُمْ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِمْ فَقَالَ: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ «٢» وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
(١) سورة لقمان: ٣١/ ١٣.(٢) سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ٦/ ٧٠.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute