أُذُنٌ لَا يُؤَاخِذُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَانَ خَائِفًا مِنْهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ بِالْبَاطِلِ. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: يَسْمَعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُسَلِّمُ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ وَيُصَدِّقُهُمْ لِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، فَهُمْ صادقون. وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ الرَّسُولِ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِمْ، وَخُصُّوا هُنَا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْعَالَمِينَ لِحُصُولِ مَزِيَّتِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ مُبَيِّنَةٌ جِهَةَ الخيرية، ومظهرة كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُذُنَ خَيْرٍ. وَتَعَدِّيَةُ يُؤْمِنُ أَوَّلًا بِالْبَاءِ، وَثَانِيًا بِاللَّامِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُمَا زَائِدَانِ، وَالْمَعْنَى: يُصَدِّقُ اللَّهَ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصَدَ التَّصْدِيقَ بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْكُفْرِ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَقَصَدَ الِاسْتِمَاعَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «١» مَا أنباه عَنِ الْبَاءِ وَنَحْوُهُ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ «٢» أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «٣» آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «٤» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ كَمَا هِيَ فِي رَدِفَ لَكُمْ «٥» وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِيمَانُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: وَتَصْدِيقُهُ. وَقِيلَ: يُقَالُ آمَنْتُ لَكَ بِمَعْنَى صَدَّقْتُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «٦» وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الَّتِي مَعَهَا اللَّامُ فِي ضِمْنِهَا بَاءٌ فَالْمَعْنَى: وَيُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمَا نَقُولُهُ لَكَ انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، والأعمش، وَحَمْزَةُ: وَرَحْمَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا على خبر، فَالْجُمْلَةُ مِنْ يُؤْمِنُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يُؤْمِنُ، ويؤمن صفة لأذن خَيْرٍ. وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ التَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةً يَأْذَنُ لَكُمْ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَيْهِ. وَأَبْرَزَ اسْمَ الرَّسُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ ضَمِيرًا عَلَى نَسَقِ يُؤْمِنُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَجَمْعًا لَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْرِيفِهِ، وَحَتَمَ عَلَى مَنْ أَذَاهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحُقَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَذَوْا هَذَا الْإِيذَاءَ الخاص وغيرهم.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.(٢) سورة يونس: ١٠/ ٨٣.(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١١.(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١٢٣.(٥) سورة النمل: ٢٧/ ٧٢.(٦) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute