شُبْهَةٌ بَلْ هِيَ وَاضِحَةٌ نَيِّرَةٌ جَلِيَّةٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَقَدْ حَلَفَ عُمَرُ فِيهَا وَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوهَا بِالشَّامِ وَقَالُوا هِيَ حَلَالٌ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ عَلِيٍّ عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا حَلَّهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ لِتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا، وَالرِّجْسُ النَّجِسُ الْمُسْتَقْذَرُ، وَذَهَبَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَالْمُزَنِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ الْمُسْكِرُ مِنْهَا مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَمْ لَا.
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ وَأَنَسٌ لَمَّا نَزَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ قَوْمٌ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا وَيَأْكُلُ الْمَيْسِرَ فَنَزَلَتْ فَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّ الذَّمَّ وَالْجُنَاحَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَيْسُوا بِعَاصِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ. وَقِيلَ هِيَ عَامَّةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِيمَا طَعِمَ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ إِذَا مَا اتَّقَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْهَا وَقَضِيَّةُ مَنْ شَرِبَهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ مِنْ صُوَرِ الْعُمُومِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ حِينَ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى، فَنَزَلَتْ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «١» وفِيما طَعِمُوا قِيلَ مِنَ الْخَمْرِ وَالطَّعْمُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَأْكُولَاتِ مَجَازٌ فِي الْمَشْرُوبِ وَفِي الْيَوْمِ قِيلَ مِمَّا أَكَلُوهُ مِنَ الْقِمَارِ فَيَكُونُ فِيهِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ مِنْهُمَا وَعَنَى بِالطَّعْمِ الذَّوْقَ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَكُرِّرَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا يُنَافِي التَّأْكِيدُ الْعَطْفَ بِثُمَّ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «٢» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَبَايُنِ هَذِهِ الْجُمَلِ بِحَسَبِ مَا قَدَّرُوا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَفْعَالِ فَالْمَعْنَى إِذَا مَا اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَآمَنُوا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثَبَتُوا وَدَامُوا عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا انْتَهَوْا فِي التَّقْوَى إِلَى امْتِثَالِ مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ من النوافل في الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِحْسَانُ. وَإِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ إِذا مَا اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَآمَنُوا وَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَازْدَادُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثَبَتُوا عَلَى التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ثَبَتُوا عَلَى اتِّقَاءِ الْمَعَاصِي وَأَحْسَنُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَحْسَنُوا إِلَى النَّاسِ وَاسَوْهُمْ بِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ انْتَهَى. وَقِيلَ الرُّتْبَةُ الْأُولَى لِمَاضِي الزَّمَانِ وَالثَّانِيَةُ لِلْحَالِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٣.(٢) سورة التكاثر: ١٠٢/ ٣- ٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute