بِالْخَلْقِ التَّرْكِيبَ. وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «١» وَقَوْلِهِ:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ «٢» وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي النَّبَاتِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّرْكِيبِ. وَبَدَأَ بِذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ تَرْكِيبٍ، وَالْوَاحِدُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى نَقْصِهَا وَكَمَالِهَا، لِكَوْنِهَا بَعْضَهُ.
وَبَثَّ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ، وَزَوْجِهَا أَيْ: نَشَرَ وَفَرَّقَ فِي الْوُجُودِ. وَيُقَالُ: أَبَثُّ اللَّهُ الْخَلْقَ رُبَاعِيًّا، وَبَثَّ ثُلَاثِيًّا، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي الْقُرْآنِ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً. قِيلَ: نَكَّرَ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الشُّيُوعِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالشُّيُوعِ حَتَّى صَرَّحَ بِالْكَثْرَةِ وَقَدَّمَ الرِّجَالِ لِفَضْلِهِمْ عَلَى النِّسَاءِ، وَخَصَّ رِجَالًا بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِالْكَثْرَةِ، فَقِيلَ: حَذَفَ وَصْفَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ وَصْفِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنِسَاءً كَثِيرَةً. وَقِيلَ: لَا يُقَدَّرُ الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ نَبَّهَ بِخُصُوصِيَّةِ الرِّجَالِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِهِمُ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقَ بِحَالِ النِّسَاءِ الْخُمُولُ وَالِاخْتِفَاءُ. وَفِي تَنْوِيعِ مَا خَلَقَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ إِلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُنْثَى، إِذْ حَصَرَ مَا خَلَقَ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، فَإِنْ وُجِدَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِشْكَالُ فَلَا بُدَّ مِنْ صَيْرُورَتِهِ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وقرىء: وخالق منها زوجها، وبات عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تقديره وَهُوَ خَالِقٌ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ. وَقِيلَ:
لِاخْتِلَافِ التَّعْلِيلِ وَذَكَرَ أَوَّلًا: الرَّبَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَثَانِيًا: اللَّهَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَهْرِ وَالْهَيْبَةِ. بَنَى أَوَّلًا عَلَى التَّرْغِيبِ، وَثَانِيًا عَلَى التَّرْهِيبِ. كَقَوْلِهِ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً «٣» ويَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «٤» كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ رَبُّكَ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَاتَّقِ مُخَالَفَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تَتَّقِهِ لِذَلِكَ فَاتَّقِهِ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: تَسَّاءَلُونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ تَتَسَاءَلُونَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ تَخْفِيفًا، وَهَذِهِ تَاءُ تَتَفَاعَلُونَ تُدْغَمُ فِي لُغَةٍ وَتُحْذَفُ فِي أُخْرَى لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْمُتَقَارِبَةُ خُفِّفَتْ بِالْحَذْفِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِبْدَالِ، كَمَا قَالُوا: طَسْتٌ فَأَبْدَلُوا مِنَ السِّينِ الْوَاحِدَةِ تَاءً، إِذِ الْأَصْلُ طَسٌّ. قَالَ العجاج:
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٤٩.(٢) سورة يس: ٣٦/ ٣٦.(٣) سورة السجدة: ٣٢/ ١٦.(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٠.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute