وَقَوْلُهُ {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مقرّون له بالعبودية. وقال السدي: أي مطيعون يوم القيامة، وقال مجاهد:{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون. قال: طَاعَةُ الْكَافِرِ فِي سُجُودِ ظِلِّهُ وَهُوَ كَارِهٌ، وهذا القول - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ - يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وهو أن القنوت الطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال تعالى:{لله يَسْجُدُ مَن فِي السموات ومن في الأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ خَالِقُهُمَا على غير مثال سبق وَهُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُحْدَثِ بدعة كما جاء في صحيح مسلم «فإن كل محدثة بدعة» وَالْبِدْعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، كَقَوْلِهِ:«فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَتَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً لُغَوِيَّةً كَقَوْلِ أَمِيرِ المؤمنين عمر ابن الخطاب عَنْ جَمْعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ:«نعمت البدعة هذه» وقال ابن جرير: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُبْدِعُهُمَا وَإِنَّمَا هُوَ (مُفْعِل) فَصُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ كَمَا صُرِفَ الْمُؤْلِمُ إِلَى الْأَلِيمِ، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث مالا يَسْبِقْهُ إِلَى إِنْشَاءِ مِثْلِهِ وَإِحْدَاثِهِ أَحَدٌ. قَالَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِعُ فِي الدِّينِ مُبْتَدِعًا لِإِحْدَاثِهِ فيه ما لم يسبق إليه غيره.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: سبحان الله إن يكون له وَلَدٌ وَهُوَ مَالِكٌ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَشْهَدُ لَهُ جَمِيعُهَا بِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتُقِرُّ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ احْتَذَاهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا إعلامٌ من الله لعباده أَنَّ مِمَّنْ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ (الْمَسِيحُ) الذِي أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ بُنُوَّتَهُ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ الذِي ابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أصل وعلى غير مثلا، هُوَ الذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ وَالدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَهَذَا مِنَ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ.