وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّا نَجِدُ نُفُوسَنَا جَازِمَةً بِوُجُودِ الْبِلَادِ الْغَائِبَةِ عَنَّا، وَوُجُودِ الْأَشْخَاصِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَنَا، جَزْمًا خَالِيًا عَنِ التَّرَدُّدِ، جَارِيًا مَجْرَى جَزْمِنَا بِوُجُودِ الْمُشَاهَدَاتِ، فَالْمُنْكِرُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالتَّوَاتُرِ كَالْمُنْكِرِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْمُشَاهَدَاتِ وَذَلِكَ سَفْسَطَةٌ١ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْمُكَالَمَةَ.
وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا لَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِيطِ٢ الْمُقَدِّمَتَيْنِ٣، وَاللَّازِمُ٤ منتفٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِذَلِكَ قَطْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِحُصُولِهِ بِالْعَادَةِ لَا بِالْمُقَدِّمَتَيْنِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّرْتِيبِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِمْ: لَا نُنْكِرُ حُصُولَ الظَّنِّ الْقَوِيِّ بِوُجُودِ مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا وُجُودَ الْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الشَّخْصِ الْفُلَانِيِّ مِمَّا جَاءَ التَّوَاتُرُ بِوُجُودِهِمَا وَعَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَجَدْنَا الْجَزْمَ بِالثَّانِي أَقْوَى مِنَ الْجَزْمِ بِالْأَوَّلِ، وَحُصُولُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَطَرُّقِ النَّقِيضِ إِلَى الْمَرْجُوحِ.
وَأَيْضًا: جَزْمُنَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ جَزْمِنَا بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي رَأَيْتَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي رَأَيْتَهُ أَمْسِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِيَقِينٍ وَلَا ضَرُورِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ مساوٍ لَهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَوَابَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمُشَاهَدَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمَرْئِيَّ الْيَوْمَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ أَمْسِ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. و"استدل"* والقائلون بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ضَرُورِيُّ.
وَأُجِيبَ: بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كان نظريًّا لعمل بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ نَظَرِيًّا كَغَيْرِهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ "وَبِالْحِسِّ"**، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ صِفَتَانِ لِلْعَمَلِ، وَلَا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".** في "أ": بالحل. وهو تحريف.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute