وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ (١) وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَهُ مُشْتَرَكًا (٢) أَوْ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ، مَجَازًا فِي الْبَعْضِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا.
الْأَوَّلُ: مُحَالٌ، إِذِ الْعُقُولُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْمَنْقُولِ، لَا ضَرُورَةً وَلَا نَظَرًا، وَالثَّانِي: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَالْقَطْعِيُّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالظَّنِّيُّ إِنَّمَا يَنْفَعُ أَنْ لَوْ كَانَ إِثْبَاتُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِمَّا يُقْنَعُ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (٣) فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوَقُّفِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُدْرِكُ لَا عَقْلِيًّا مَحْضًا وَلَا نَقْلِيًّا مَحْضًا، بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا، كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا الْحَصْرَ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَالنَّقْلُ الْقَطْعِيُّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيهِ، وَالظَّنُّ إِنَّمَا يُكْتَفَى بِهِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً، فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ يَكُونُ جَوَابًا لِخُصُومِكُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ.
قُلْتُ: أَمَّا إِنْكَارُ الْقَطْعِ فِي اللُّغَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُفْضِي إِلَى إِنْكَارِ الْقَطْعِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْخِطَابِ بِالْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَمَعْقُولِهَا، وَذَلِكَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الْقَطْعِ.
قُلْنَا: نَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُتَعَرِّضِينَ لِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ بَلْ نَحْنُ مُتَوَقِّفُونَ، فَمَنْ رَامَ إِثْبَاتَ اللُّغَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ لَهُ مَتَى يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، أَإِذَا كَانَ شَرْطُ إِثْبَاتِهِ الْقَطْعَ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ عِنْدَ تَوَجُّهِ التَّقْسِيمِ مِنْ تَنْزِيلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَمْنُوعِ أَوِ الْمُسَلَّمِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِمَا سَبَقَ:
(١) هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ(٢) أَيْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا(٣) كَثْرَةُ الْخِلَافِ وَتَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَظَرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، حَتَّى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِيِّ، مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute