وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفًا بِالْإِشَاعَةِ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ إِبْطَالُ صَلَاةِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ، فَالنَّقْضُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ.
وَلَا تَكْلِيفَ بِمَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ إِنْ لَوْ كَانَ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ سِوَى النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ كَافٍ فِيهِ، وَلِهَذَا جَازَ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ إِجْمَاعًا، وَمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْوَقَائِعِ فَغَيْرُ مُنَاظِرَةٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، إِذِ الطِّبَاعُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا وَإِشَاعَتِهَا عَادَةً، فَانْفِرَادُ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ (١) .
ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مُنْتَقِضٌ عَلَيْهِمْ حَيْثُ عَمِلُوا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ الْإِلْزَامِ وَمَسِّ الذَّكَرِ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ فِي الْوُقُوعِ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ، فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْ كَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي عُمُومِ الْبَلْوَى.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، بَلْ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ إِشَاعَتُهُ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ (٢) .
وَلَا كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الظَّنَّ كَافٍ فِيهِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَمَا عَدَا الْقُرْآنِ مِمَّا أُشِيعُ إِشَاعَةً اشْتَرَكَ فِيهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ، وَأُصُولِ الْمُعَامَلَاتِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَشِيعَ، فَذَلِكَ إِمَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِإِشَاعَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (٣) .
(١) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا(٢) هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ مَعَ الْآحَادِ، وَكَانَ يُرْسِلُ الْوُلَاةَ وَالدُّعَاةَ إِلَى الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَالْمُعَلِّمِينَ لَهُ آحَادًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ سِيرَتِهِ فِي ذَلِكَ(٣) بَلْ ذَلِكَ مُتَعَبَّدٌ بِهِ مَقْصُودٌ إِشَاعَتُهُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute