قال أبو عبيدة: وقدمت على الفضل بن الربيع فقال: من أشعر الناس؟
قلت: الراعى، قال: وكيف فضّلته؟ قال: إنه ورد على سعيد بن عبد الرحمن الأموىّ فوصله فى يومه الذى لقيه فيه وصرفه، فقال [١]:
وأنضاء تحنّ إلى سعيد ... طروقا ثم عجّلن ابتكارا [٢]
حمدن مزاره ولقين منه ... عطاء لم يكن عدة ضمارا [٣]
فقال: ما أحسن ما اقتضيتنا يا أبا عبيدة! ثم غدا إلى الرشيد، فأخرج لى صلة، وأمر لى بشىء من ماله، وصرفنى.
وقال أبو عبيدة: دفعت إلى جعفر بن سليمان أمثالا فى الرّقاع؛ قيل لى:
كم كانت؟ قلت أربعة عشر ألف مثل؛ فانظر إلى هذه السّعة فى الرواية؛ وبين ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلّام؛ فإنه لما اجتهد جاء بألف مثل.
وكان أبو عبيدة جبّاها [٤]، واتّفق أن خرج إلى فارس قاصدا موسى بن عبد الرحمن الهلالىّ؛ فلما قدم عليه أوصى غلمانه بالاحتراز منه وقال: كلام أبى عبيدة دبق [٥]، واتفق أن أحضر الطعام، فصبّ بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال له الهلالىّ:
قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة أثواب، فقال له أبو عبيدة:
لا عليك؛ إنّ مرقكم لا يؤذى؛ أى ما فيه دهن، ففطن لها الهلالىّ وسكت.
[١] البيتان من قصيدة مطلعها: ترجّى من سعيد بنى لؤى ... أخى الأعياص أنواء غزارا وانظر الأغانى (٢١: ١١٨) و (اللسان- ضمر)، و (لباب الآداب ٨٩ - ٩٠). [٢] الأنضاء: جمع نضو، وهو الدابة التى أهزلتها الأسفار، والطروق: المجئ ليلا قصد الحاجة. وفى اللباب: «أنخن». [٣] الضمار: ما لا يرجى من الدين والوعد. [٤] يقال: جبهت فلانا إذا استقبلته بكلام فيه غلظة. [٥] الدبق فى الأصل: شىء يلتزق به كالغراء؛ يريد أن كلامه يعلق أثره.